04/09/2023 - 15:00

أمثولة سمرقند وبخارى | نصوص

أمثولة سمرقند وبخارى | نصوص

HD wallpaper

 

جيب السترة

في أوّل يوم مدرسيّ، وضعت أمّي يدها في جيب سترتي، وقالت: "سأكون معك". وعندما كنت أعرف الإجابة وأخجل، كانت يدها ترفع يدي أمام المعلّمة كي تختارني. وفي المشاجرات، كانت تضربهم على أنوفهم فتخدّرها. وفي الامتحانات، حين تعجزني إحدى المسائل، كانت تمسك القلم خلسة وتكتب الإجابة عنّي.

كبرتُ ونسيت السترة، وبعد موت أمّي، عثرت عليها بين الأشياء الّتي كانت تحتفظ بها كي تعينني على ‏الاستمرار. أخذتُها إلى الخيّاط، وطلبت أن يصنع سترة جديدة تضمّ الجيب القديم.‏

وأمام صفّ السيّارات، أقطع – أنا الّذي يفزعني هاجس أن تنعكس قوانين الكون - الشارع َممسكًا يدها في ‏الجيب الضيّق. وفي الليل، حين أفتح عينيّ فجأة في السرير متذكّرًا وجود السترة قربه، أرى يدها في الأعلى تمسك عنق ذئب مجنّح ‏حاول التسلّل إلى منامي.

وفي الصباح، حينما أرتدي سترتي، وأنظر في المرآة كما تنظر ضحيّة إلى قاتلها، تخرج يد أمّي وتمسح الضباب عن سطحها، ‏فيمدّ الآخر يده برفق من المرآة نحوي.

***

 

أمثولة سمرقند وبخارى

"إن قَبِلَتْ تلك التركيّة الشيرازيّة أن تمتلك قلبي
فمن أجل شامتها السوداء سأهب سمرقند وبخارى"، حافظ الشيرازي.


في أمثولة[1] القصر لبورخيس، يدعو الإِمبراطور الصينيّ، ابن السماء، وحاكم ’المملكة الوسطى‘، شاعرًا إلى جولة في قصرِه الشبيه بمتاهة من الجنان، حيث الخيال والواقع طرفَي مرآة فُضَّتْ أقفالها السحريّة، فامتزجا كروحَين في لحظة العناق الأبديّ.

في نهاية الجولة، أنشد الشاعر، الّذي بدا منتزعًا من المشاهد الّتي أدهشت مَنْ حوله، قصيدة قصيرة، سطرًا واحدًا، احتوى القصر كلّه. سلب الشاعر من الإمبراطور- الإله القصرَ- الكونَ، بقصيدة- كلمة هي بديله الّذي أفناه؛ إذ لا يمكن أن يوجد في العالم شيئان متطابقان.

فور انتهاء تيمورلنك من اجتياح مدينة شيراز، أمر أن يُحْضِروا له الشاعر الّذي سلبه عاصمتيه؛ سمرقند وبخارى، المشيّدتين بالجواهر المنهوبة من المدن الّتي دمّرها، على ضفّتين يجري بينهما نهر الزمن.

كلمات من هواء نطقها ’لسان الغيب‘[2] ليهديها لامرأة من لحم ودم، لشامتها السوداء الشبيهة باسم الله الموقّع تحت لوحة وجهها، تجمّعتْ في بيت واحد، حيث كلّ كلمة حرف؛ ليصير الشطر الأوّل سمرقند، والآخر بخارى، والصمت بين الشطرين راحة الربّ ونفَسه[3].

لحظة انتهى حافظ من إنشاد بيته، فاض ماء الزمن الأحمر على المدينتين، فاختفتا في عينَي صاحبهما، وأخذتْ مكانهما أنقاض كالّتي صارتها كلّ مدينة دخلها، كأنّ اسم تيمورلنك[4] الّذي كان يصرخ به النهر، حُفِرَ في حجارتهما، فغدا الفيروز حديد خلود أعرج.
 

***
 

لبن الفطرة

في رمضان، وفي أحد بيوت بلدة القدس القديمة، حكى جدّ أبي له قصّة سفر النبيّ على ظهر حصان مجنّح من مكّة إليهم، بجسده المؤكّد بجسد البراق لا بالرؤيا، ولقائه إخوته الأنبياء في المسجد الأقصى بعد أن أحياهم الله لأجله، وثناء الملاك عليه لأنّه اختار اللبن، عوض الخمر، حين قُدِّمَ له قدحان، فوافق الفطرة، وصعوده من الصخرة المقدّسة، حيث شرب، إلى السماء السابعة ليلقى الإله.

أعطى الجدّ حفيده بضع قطع نقديّة ليشتري فطائر محلّاة يأكلها بعد الفطور؛ مكافأة له على الصيام وحسن الاستماع. وعندما وقف أبي في الطابور، شاهد طفلًا في مثل سنّه يشتري من الدكّان المجاور زجاجة حليب. ما إن تناولها بعد الدفع حتّى وقعتْ من يده وانكسرتْ، فأخذ يبكي ويستجدي البائع والمارّين حتّى اختلطتْ دموعه باللبن المسكوب، ولم تنجح في تعويضه.

توجّه أبي نحو الطفل دون أن يشتري حلواه المفضّلة، رغم ثقل رائحتها الّتي تسرّبتْ إلى حواسّه بقوّة الجوع، وأعطاه كلّ ماله، فتوقّف عن البكاء، واشترى زجاجة أخرى.

أُغْلِقَتِ المحالّ، وغادر الناس إلى فطورهم، سوى أبي الّذي ظلّ هناك يحدّق في مكان القطع المكسورة.

عند أذان المغرب، وفي إحدى لحظات القدس السحريّة، وفي لقاء الأرضيّ بالسماويّ، المرموز إليه في هندسة قبّة الصخرة بدوران المربّع داخل الدائرة، انفصل الملح عن الحليب، وغدا عمودًا تبخّر في الغروب. التأم الزجاج كنافذة ضامًّا الحليب إليه، كأنّ يدًا إلهيّة عكستْ نهر الوقت فعاد من البحر، فأرضعتْ برفقٍ الفم المفتوح من الدهشة حلاوة لم يذق كمثلها؛ لأنّه اختار الفطرة.

 

***

 

سترة أمّ كلثوم

في عام 1967، وبعد أشهر من هزيمة العرب وضياع ما تبقّى من فلسطين، غنّت أمّ كلثوم في باريس كي تتبرّع بأجرها للمجهود الحربيّ لبلادها. وحين سألتها المذيعة عن أجمل مكان أعجبها هناك، أجابتها السيّدة:

- المسلّة، عشان بتاعتنا، جزء من بلدنا.

بعد ذلك بعقود، ستمشي فتاة في شوارع باريس مرتدية سترة تحمل صورة أمّ كلثوم، وأينما حلّت تصنع مظاهرة فرح في المكان. فالمصريّ الّذي أهداها في دكّانه زجاجة عصير جوّافة عاد طفلًا، حول مهاده مآذن القاهرة تطلق تهاويدها، ومن مئذنة صغيرة في الغرفة يأتي صوت أمّ كلثوم حاملًا ملء راحتيه مشمش الأعماق.

والنادل التونسيّ الّذي شاهد مرارًا على ’اليوتيوب‘ حفل أمّ كلثوم في تونس، عندما غنّت «بعيد عنّك» أمام خمسة آلاف متيّم، فكرّرت "كنت بشتاقلك وأنا وإنت هنا"، كأنّها تؤكّد أنّ "كلّ شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه"، عانق صورة أمّ كلثوم الّتي ترتديها الفتاة.

والفلسطينيّ الّذي رآها تمشي نحوه، مستندًا إلى عمود إنارة مطفأٍ، وهو ينتظر الحافلة الأخيرة الّتي ستعيده إلى البيت، صعد على براق من حديث أبيه، فنزل في البلدة القديمة بالقدس، ومشى في "ساعة أمّ كلثوم" من باب الخليل إلى باب دمشق، مشاهدًا كلّ صاحب محلّ يستمع إليها قرب مذياعه، فتغدو المذاييع جميعها مذياعًا واحدًا كبيرًا كي لا ينقطع صوتها لحظة في الطريق.

أينما حلّت تلك الفتاة السوريّة في مدينة الأنوار، كان العرب يودِعون أرواحهم في غيمة تنسجها خيوط سترتها، حيث تغنّي أمّ كلثوم في ليل، قطع كالمسلّة البحر من بلادهم... إليهم.

 

***
 

أجمل يدين في العالم

كانتْ تمتلك أجمل يدين في العالم. فما إن تمدّ يدها نحو أحدهم للمصافحة، حتّى يخلق مرآها شاعرًا في ملامح وجهه المندهشة، ينشد قصيدته في مديح اليدين.

أنفاس اللون، براعم المفاصل، انبثاق الأصابع، ندى الأظافر، بتلات البشرة، وهشاشة الزهرة في اليد، كلّ ذلك كان مثاليًّا. لكن رغم ذلك، كان الناس ينظرون إليها بدهشة مزعجة، كمصوّرة الإعلانات الّتي تعرّفتْ عليها في إحدى الحفلات، الّتي أخذت تنقل بصرها بين اليدين والوجه، كأنّها تحاول حلّ لغز.

في جلسة تصوير إعلانها الأوّل مع المصوّرة من الحفلة، ارتدتْ فستانًا بلا كمّين، وألبسها ممثّل وسيم خاتمًا مزيّنًا بحجر أخضر. صنعتْ يداه الممسكتان يدها ضحكة حقيقيّة في وجهها تلائم قبول عرض الزواج.

شاركتْ في جلسات تصوير عدّة. وحينما كانتْ تغادر الأستوديو بملابس قصيرة، كانت تشعر، والهواء يختلط في جلدها بالنظرات، بأنّ جمال يديها امتدّ إلى كامل جسدها.

حتّى شاهدتْ يدها للمرّة الأولى في إحدى الجداريّات الضخمة. كانت كينونة يدها تجلب إلى الحضور أوج الحجر الكريم. وعندما رفعتْ بصرها إلى الوجه، لم تَجِدْ وجهها، فقد وضعوا مكانه وجه عارضة أخرى يلائم اليدين.

ارتدتْ، إذ تبتعد مسرعة عن الإعلان، سترتَها الّتي حملتْها في حقيبتها تحسّبًا لاختلاف الطقس. أخفتْ يديها داخل الكمّين، شاعرة أنّها سرقتهما.

 

***

 

طرس

"ما مِنْ مَوْلودٍ إلّا في عُنُقِهِ وَرَقَةٌ مَكْتوبٌ فيها شَقِيٌّ أَوْ سَعيدٌ".
"وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طآئِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشورًا".
"وَوُجوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ".
"ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرونَ".
"قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا".
"هَآؤُمُ ٱقْرَءواْ كِتَٰبِيَهْ".
"يَٰلَيْتَني لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ".


في البدء، كان كلّ شيء مخطوطة. أليست الجنّة مكتبة كما حلم بورخيس؟ ألم يكن ذلك ليجعل الإله أمين مكتبة؟ وحين أراد الله أن يعاقب آدم على الخطيئة، تناول مخطوطته فمحا وأضاف، محا الأجنحة وخطّ المفاصل، محا الشواطئ وخطّ ساعة الرمل، محا الوطن وخطّ حوّاء، محا الوجه وخطّ المرآة، محا التحوّلات[5] وخطّ الأدب...

ثمّ عدّل بقيّة المخطوطات الّتي ستهبط مع آدم، كي يقرأ نقصه في الأشياء، ولو دفن مخطوطته في التراب.

أعطى الله آدم قلمًا، وقال له أن اكتب على الجلد. وكلّما كتب كلمة محا أخرى، فندم، فمحا الكلمة الجديدة وحاول أن يكتب فوقها الكلمة القديمة، فامتلأ طرسه بخربشات الربّ وخربشاته.

يوم القيامة، تتفتّح كتب الأشياء مثل أجنحة، وتعود إلى مكتبتها، بينما يقف آدم أمام العرش بغبرة على صفحة وجهه، وبقع سوداء من اندلاق الحبر، ليقرأ الله الطرس، فإن أعجبه أعاد كتابة المخطوطة بالقلم الّذي يجري فيه مداد عنبر نون[6]، وإلّا رمى الأوراق في النار.

 

***

 

مكتبة الله

"وَلَوْ أَنَّما فِى ٱلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَٰمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ سَبْعَةُ أَبْحُرٍۢ مّا نَفِدَتْ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِ".
"ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ".
"لَمْ يَخْلِقِ اللهٌ بِيَدِهِ غَيْرَ ثَلاثٍ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التوْراةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدَنٍ بِيَدِهِ".
"نَظَرَ الله في التَّوْراةِ وَخَلَقَ الْكَوْنَ".
"وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشورًا".
"كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ".
"نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الْأَمينُ، عَلى قَلْبِكَ".
"إِنَّ قُلوبَ بَني آدَمَ كُلَّها بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ واحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشاءُ".


جنّة الله مكتبة. والمكتبة شجرة في البحر. الشجرة قلم، تنبثق منها أوراق الكتب. مداد سبعة أبحر، أو كنز أبديّاتٍ سبع، تصعد في جذور الشجرة، فتخطّ الأغصان طبقة جديدة من الكلمات كلّ ’آنٍ‘، فوق كلّ صفحة من الصفحات. في كلّ آنٍ ينظر الله إلى كتاب ويخلق كونًا. ينظر إلى الماء وهو يجري بفيضه فوق المخطوطة ويخلق آدم. كلّ آنٍ يغدو كتاب روحًا أو طائرًا، ويحطّ على قلب نبيّ؛ لأنّ قلب الإنسان ليس سوى القلم نفسه بين إصبعَي الرحمن.

 


إحالات

[1] Parable of the Palace.

[2] لقب حافظ. 

[3] "لأَنَّه فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، وَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ اسْتَرَاحَ وَتَنَفَّسَ".

[4] يتكوّن اسم تيمورلنك من كلمتين، تيمور الّتي تعني الحديد، ولنك الّتي تعني الأعرج.

[5] Metamorphoses.

[6] الحوت. 

 


 

أمير حمد

 

 

 

وُلِدَ في القدس ويقيم فيها. درس بكالوريوس علم الحاسوب من «جامعة بيرزيت». حصلتْ مجموعته القصصيّة الأولى «جيجي وأرنب علي»، وكذلك مجموعته الشعريّة الأولى «بحثت عن مفاتيحهم في الأقفال»، على جائزتَي «مسابقة الكاتب الشابّ» (2019)، الّتي نظّمتها «مؤسّسة عبد المحسن القطّان».

 

 

التعليقات